الذكاء الاصطناعي، بين إنفاق هائل واًضرار للبيئة، هل يستحق كل ذلك؟

الذكاء الاصطناعي موجود ومستخدم منذ سنوات، بداية من تصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية في لوحة مفاتيح هاتفك، إلى التعرف على الوجوه في صورك، إلى الترجمة الفورية في ترجمة جوجل وغيرها. لكن مؤخرا تحاول عمالقة التقنية تطوير ذكاء اصطناعي اقوى واكثر فاعلية ليقوم بالمزيد من المهام و”يغير العالم”، تأتي محاولاتهم بثمن باهظ، بالمعنى الحرفي والمعنوي، في هذا المقال سنستعرض إنفاق الشركات المهول على تطوير الذكاء الاصطناعي، وهل سيكون فعلا ذا عائد في المستقبل أم أنها أموال مهدرة؟ وماهي الأضرار البيئية الناتجة عن هذا التطوير؟ جهز نفسك لتقرأ أرقامًا لن تخطر في بالك!
إنفاق لامحدود على الذكاء الاصطناعي

أظهرت إعلانات الأرباح للربع الثاني من السنة لكبرى شركات التقنية نتائج أفضل من توقعات محللي وول ستريت، لكنها أظهرت أيضًا ارتفاعا في إنفاقهم على الذكاء الاصطناعي يقارب 50% خلال العام الجاري، حيث وصل إنفاق جوجل وأمازون ومايكروسوفت وميتا مجتمعين خلال الشهور الست الأولى من عام 2024 لأكثر من 100 مليار دولار، 59 منها خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، أي الربع الأخير. هذا الارتفاع الضخم في الإنفاق سببه الرئيس تطوير خدمات الذكاء الاصطناعي.

كيف يتم تطوير خدمات الذكاء الاصطناعي تحديدًا؟ يتم ذلك عبر تطوير البنية التحتية اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة ومن ثم الحصول على نتائج أفضل، يتضمن ذلك بناء مراكز بيانات عملاقة، وشراء بطاقات الرسوميات -في الغالب من إنفيديا- لقدرتها على تنفيذ ملايين العمليات في وقت قصير، ما يجعلها الأداة الأهم في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الحديثة، وكذلك تطوير الخدمات السحابية اللازمة للتعامل مع كميات البيانات الهائلة المستخدمة للتدريب وغيرها.

يتوقع محللو “ديل أورو جروب” أن إنفاق عمالقة التقنية على الذكاء الاصطناعي سيصل لتريليون دولار خلال السنوات الخمس القادمة، تريليون دولار أي ألف مليار دولار، لكي تستوعب الرقم، بلغ مجمل إنفاق جمهورية مصر العربية 81 مليار دولار عام 2020، أي أن هذا الرقم أكبر بأكثر من 10 أضعاف إنفاق دولة كاملة بمؤسساتها وشعبها وشركاتها!

لنأخذ مايكروسوفت مثالًا، هي من أوائل الشركات التي ضخت أموالا كثيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، تحديدا في استثماراتها في أوبن إيه آي الشركة الرائدة صابحة بوت الدردشة الشهير ChatGPT، فقد استثمرت مايكروسوفت عام 2022 أكثر من 13 مليار دولار في OpenAi، ولا تزال من أكبر المستثمرين في الشركة.

وقال رئيس مايكروسوفت التنفيذي ساتيا ناديلا في إعلان الأرباح الربع سنوي الأخير

شكلت الإنفاقات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي النسبة العظمى من إنفاق الشركة البالغ 19 مليار دولار.

ذهب نصف المبلغ لتطوير البنية التحتية، والنصف الآخر على الخدمات السحابية وشراء المعالجات وبطاقات الرسوميات. بالطبع يتوقع ناديلا زيادة هذا الرقم مستقبلًا.

أما مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لميتا، قال أن العملاق التقني سينفق مبلغًا يتراوح من 37 إلى 40 مليار دولار هذه السنة، والنسبة العظمى منه ستذهب لتطوير الذكاء الاصطناعي، يتوقع محللو “جي بي مورجان” وصول استثمارات ميتا لـ50 مليار دولار بحلول العام القادم 2025.

في الناحية الأُخرى، استثمرت جوجل 13 مليار دولار في تطوير الذكاء الاصطناعي هذا الربع. يذكر أن جوجل استثمرت سابقًا مليارَي دولار في شركة أنثروبك “Anthropic” صاحبة بوت الدردشة Claude الذي أصبح منافسًا بشدة لشات جي بي تي، وذلك بعد إطلاق نموذجهم الأقوى Claude 3.5 sonnet وهو حريٌّ بالتجربة .

أما أمازون، فقد ارتفعت نفقاتها الكلية هذا الربع بـ 43% لتصل إلى 16 مليار دولار، وهذا الرقم يشمل الإنفاقات على قطاع التجارة الالكترونية، وكذلك تطوير البنية التحتية والخدمات السحابية اللازمَتين للذكاء الاصطناعي التوليدي. وقد استثمرت أمازون أيضًا 4 مليارات دولار في أنثروبك، يذكر أيضا أن أمازون تحاول توفير بوت دردشة لمساعدة المستخدمين في تسوقهم، فيمكن لـRufus مثلا الإجابة عن أسئلة تتعلق بالمواد المصنع منها المنتج ومدى تحملها، أو جلب تقييمات المشترين من المواقع الالكترونية، ولا تبدو انطباعات المستخدمين الأولية عنه مبشرة، مع العلم أنه لا يزال متاحا في نطاق محدود.
تساؤلات واضحة حول العائد من الذكاء الاصطناعي

في ظل كل تلك المبالغ المهولة المنفقة، يتساءل المستثمرون وخبراء وول ستريت عن جدوى كل ذلك، وهل العائد من خدمات الذكاء الاصطناعي سيكون كافيًا لتبرير كل هذه المبالغ؟

قال رئيس قسم البحوث العالمية للأسهم في بنك جولدمان ساكس، جيم كوفيلو، في تقرير يتحدث عن جدوى استثمارات عمالقة التقنية في الذكاء الاصطناعي، مُعلقًا على الإنفاق الهائل على الذكاء الاصطناعي:

تقنيات الذكاء الاصطناعي باهظة الثمن بشكل استثنائي، ولتبرير هذه التكاليف، يجب أن تكون التكنولوجيا قادرة على حل مشكلات معقدة، وهو ما لم تُصمم للقيام به.

وأضاف:

نقطة البداية للتكاليف مرتفعة للغاية لدرجة أنه حتى إذا انخفضت التكاليف، فسيتعين عليها أن تنخفض بشكل كبير لجعل أتمتة المهام باستخدام الذكاء الاصطناعي قليلة التكلفة. وفقًا لتجربتنا، حتى المهام الأساسية مثل التلخيص غالبًا ما تنتج نتائج غير مفهومة وغير منطقية.

يتضح من تصريح كوفيلو أن حلم كبرى الشركات التقنية بأتمتة الوظائف لجعل الذكاء الاصطناعي “مفيدًا” ما زال حلمًا صعب المنال، لا تقلق لن يستبدل الذكاء الاصطناعي وظيفتك!

حتى الآن لا توجد صورة واضحة لدى أي من كبرى شركات التقنية عن كيفية الربح من الذكاء الاصطناعي بما يعوض الإنفاق الهائل، على سبيل المثال، قال مارك زوكربيرج، إنه “يفضل التطوير (أي، في مجال الذكاء الاصطناعي) مبكرًا بدلًا من متأخرًا والسماح لمنافسيه بالتفوق عليه” وقال مارك أيضا:

الطرق التي يُحسِّن بها (أي، الذكاء الاصطناعي) التوصيات ويساعد الناس على العثور على محتوى أفضل، بالإضافة إلى جعل تجارب الإعلانات أكثر فعالية، أعتقد أن هناك الكثير من الفوائد في ذلك.

مع العلم أن الذكاء الاصطناعي المذكور ليس الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي هو نجم المنافسة الحالية، وأن الشركة أمامها طريق طويلة لجعل مميزاتٍ مثل Meta Ai تدر المال.

وقال ساندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لجوجل، في تصريح مشابه:

في مجال التكنولوجيا، عندما تمر بمرحلة انتقالية كهذه، فإن خطر التقليل من الاستثمار (في الذكاء الاصطناعي) يكون أعلى بكثير من خطر المبالغة في الاستثمار.

وأوضح أيضا أن أرباح مجال الإعلانات في الشركة قد ارتفعت بنسبة 11% لتصبح 64 مليار، بمعنى آخر، الشركة قادرة على تحمل كل هذه النفقات على الذكاء الاصطناعي.

لننظر إلى كيفية ربح جوجل من الذكاء الاصطناعي حاليًا، هناك جيميناي أدفانسد، النسخة الأقوى من بوت الدردشة جيميناي، ويأتي باشتراك شهري بـ20 دولارا، ولم تفصح جوجل عن عدد المشتركين الحاليين في الخدمة. وإذا أراد أحد المطورين دمج خدمات الذكاء الاصطناعي في تطبيقه مثلا، فجوجل توفر له وصولا -مدفوعا أو مجانيًا حسب عدد الطلبات المتوقع- لنموذج Gemini 1.5 Pro، ويستخدم 60% من الشركات الناشئة خدمات جوجل كلاود للذكاء الاصطناعي، حسب تصريح ساندار بيتشاي، ولا تنحصر الخدمات المتاحة في جوجل كلاود على الذكاء الاصطناعي التوليدي، بل توجد خدمات مثل التعرف على الصور وغيرها.

وشاهدنا مؤخرا محاولة جوجل دمج جيميناي في هواتفها الرائدة الحديثة بكسل 9 و 9 برو لتقديم مميزات مثل إجابة الأسئلة حول ما يظهر على شاشة المستخدم وتنفيذ أوامر بناءا على ذلك، يمكن لهذه الخطوة جلب المزيد من المشتركين للخدمة المدفوعة، خصوصا مع توفير جوجل 3 شهور مجانية من Gemini Advanced عند شراء أحد هواتف بكسل 9.

حاولت جوجل أيضا تحسين نتائج البحث لديها باستخدام الذكاء الاصطناعي، عبر توفير ميزة Ai Overviews التي تقدم أجوبة ملخصة من نتائج البحث، ولقد أدت لنتائج كارثية مما اضطر جوجل لسحب الميزة سريعا، في إحدى المرات وصت بتناول صخرة يوميا!

أما مايكروسوفت، فلديها استثمارها في OpenAi بـ13 مليار دولار، ولديها خدمات مايكروسوفت وAzure المدعومين بالذكاء الاصطناعي، وحسب تصريح مايكروسوفت، تستخدم 60% من شركات Fortune 500 خدمات Office 365 المدعومة بـCopilot، في جانب الخدمات يوجد GitHub Copilot، الاشتراك الشهري الذي يوفر أدوات مساعدة لكتابة الأكواد البرمجية على موقع GitHub التابع لمايكروسوفت، وقد حصل على أكثر من 1.8 مليون مشترك نشط بحلول منتصف العام الحالي.

أما من ناحية دمج الذكاء الاصطناعي في الأجهزة المحمولة، فقد رأينا مؤخرا إضافة زر مخصص لكوبايلوت في أجهزة اللابتوب المزودة بشرائح كوالكوم الجديدة، ولكن المميزات التي عرضتها مايكروسوفت لم تكن محمسة للمستخدمين بالدرجة التي تجعل التحديث لهذه الأجهزة مبررًَا، هذا دون الحديث عن ميزة Recall التي سببت العديد من المشاكل والتساؤلات حول الخصوصية في استخدام ادوات الذكاء الاصطناعي.

الأثر البيئي لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي

إلى جانب كل هذه الأموال المهدرة -إن صح التعبير- هناك الأثر البيئي لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي والذي قليلًا ما يتم ذكره مع أنه أثر ضخم لا يجب تجاهله، حيث يتوقع الخبراء أن استهلاك الطاقة بواسطة قطاع الذكاء الاصطناعي الناتج عن تشغيل المعالجات والخوادم ومراكز البيانات الضخمة، سيتراوح بحلول عام 2027 من 85 إلى 134 تيرا وات ساعة سنويا، لكي نستوعب هذا الكم الهائل من الطاقة، فإن دولة هولندا تستهلك سنويًا قرابة 120 تيرا وات ساعة!

كبرى الشركات تعي ذلك جيدا، فقد قال سام التمان سابقًا أن الموجة التالية من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي سوف تستهلك طاقة أكبر بكثير مما كان متوقعا، وأن أنظمة الطاقة سوف تكافح لتتأقلم. إذا، كيف سيحل التمان هذه المشكلة؟ الجواب: الطاقة النووية، وتحديدًا الاندماج النووي، يقول التمان “لا توجد وسيلة للوصول إلى هناك (أي نضوج تقنيات الذكاء الاصطناعي) دون تحقيق طفرة.”

يذكر أن سام التمان قد استثمر 375 مليون دولار عام 2021 في شركة Helion Energy التي يعتقد أنها أفضل الخيارات المتاحة حاليًا في مجال الطاقة النووية، وبهذا المبلغ أصبح من أكبر المستثمرين في الشركة. وإضافة لاستثمار سام التمان، فشركة مايكروسوفت -أحد أكبر المستثمرين في شركة سام التمان OpenAi- وقعت عقدًا مع هيليون الأمريكية ينص على أن الأخيرة ستوفر 50 ميجاوات لمراكز بيانات مايكروسوفت بحلول عام 2028. لكن يظل علماء الفيزياء متشككين في صدق هذا الوعد، رغم كون الـ 50 ميجاوات رقما ليس بالضخم، حيث أنهم بعد كل هذه العقود من محاولة الحصول على الكهرباء من الطاقة النووية على نطاق واسع، إلا أن الطريق ما يزال طويلًا لتحقيق حلم الطاقة النظيفة اللانهائية والتي ستحل مشاكل الطاقة في الكوكب!

من جانب آخر، تحتاج كل تلك المعالجات وبطاقات الرسوميات التي تعمل دون كلل أو ملل كمية ماءٍ مهولة لتبريدها، وقد حصلت شكاوى وقضايا على بعض الشركات، لنأخذ أوبن إيه آي مثالًا، فقد اشتكى سكان مدينة ويست دي موينز الأمريكية أن مراكز بيانات OpenAI تشكل وحدها 6% من استهلاك المدينة للماء، أتت تلك الشكوى بأسابيع قليلة قبل الانتهاء من تدريب نموذج GPT 4. وتذكر، هذه شركة بواحدة تدرب نموذجًا واحدًا لديها!

أما عن التوقعات المستقبلية للاستهلاك، فتشير ورقة بحثية إلى أن استهلاك قطاع الذكاء الاصطناعي للمياه قد يتراوح بين 4-6 مليار متر مكعب سنويًا، أي ما يعادل استهلاك دولة كاملة كالدنمارك!

بالطبع تظل كل هذه الأرقام مجرد تقديرات للباحثين والشركات الخاصة، فَلم ولن تصرح أي شركة من عمالقة التقنية عن التكلفة البيئية الحقيقية لتطوير وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، هل تريد منهم أن يظهروا بمظهر الأشرار ملوثي البيئة؟ ولسان حالهم يقول دعنا ننظر في أمر هذه البيئة لاحقًا!
كيف يبدو المستقبل من هنا؟

تستثمر كبرى شركات التقنية بكل ما لديها في مجال الذكاء الاصطناعي بالرغم من عدم ظهور أثر يبرر هذه الاستثمارات في الوقت الحالي، وبالرغم من الأضرار البيئية الجسيمة، لكن يأمل مدراء تلك الشركات ظهور طرق جديدة للاستفادة والربح من الذكاء الاصطناعي في المستقبل، بمعنى آخر، إنهم يستثمرون بقوة حتى لا يفوتوا فرصة جلب دجاجة تبيض لهم ذهبا في المستقبل، وإن لم يحدث ذلك، تملك هذه الشركات رأس المال الكافي لحرق كل تلك الأموال كما يشاؤون!
أخبرني عزيزي القارئ، هل ترى الذكاء الاصطناعي سيغير العالم فعلًا أم أنه مجرد موجة جديدة مثل البيتكوين والـ Web3 وسريعا ستذهب أدراج الرياح؟

——–

المركز السوري للبرمجة – شركة خاصة
مركز معتمد من الهيئة الوطنية لخدمات الشبكة
تصميم وبرمجة واستضافة مواقع انترنت – برمجة تطبيقات موبايل – تنفيذ مشاريع الأتمتة والأرشفة
دمشق شرقي ركن الدين